تعليم اللاجئين: التعلّم تحت وطأة الأزمات

 

تعد المعونة الإنسانية غاية في الأهمية بالنسبة للاجئين، لكن دعم تعليمهم نادراً ما يلقى الاهتمام الكافي. وهنا يناقش الرواد في هذا المجال بأنه من دون دعم أكثر شمولية على مستوى التعليم العالي للاجئين، من المتوقع أن تخسر المنطقة ألمع العقول القادرة على نهضتها.

 

ما تزال أزمة اللاجئين السوريين تتصدر عناوين الصحف ووسائل الإعلام العالمية نظرًا لحجمها وانعكاساتها الاقليمية والدولية المستمرة. لكن في طيات هذه الأزمة هناك كارثة كامنة بعيدًا عن الأنظار لا تقل شأنًا في تأثيرها على مستقبل الأمة السورية. فمن بين اللاجئين السوريين الذين هربوا من الصراع الدامي في بلدهم والذين وصلت اعدادهم إلى 4.8 مليون لاجئ سوري، هناك عشرات الآلاف من الشباب السوريين الذين توقفوا عن متابعة تعليمهم الجامعي فجأة، مما قضى على آمالهم نحو مستقبل أفضل.

وقبيل اندلاع الأزمة كان الشباب السوري هو صاحب المكانة الأكثر تميزًا بين شباب المنطقة العربية، إذ بلغ معدل اكمال الدراسة الثانوية 74 بالمئة، ونحو ربع أعداد الفئة العمرية بين 18 و22 سنة كانوا يستكملون دراستهم الجامعيةـ بينما اليوم لا تصل نسبة الالتحاق بالجامعات 6 بالمئة. وهذه الحالة السيئة تنطبق بدرجات متفاوتة على كل من اللاجئين العراقيين والفلسطينيين واليمنيين، فهؤلاء جميعاً قد اقتلعوا من جذورهم وبيئتهم بسبب الاقتتال؛ وتشير التقديرات إلى أنه أقل من الواحد بالمئة من بين الشباب اللاجئين قد تمكنوا من الالتحاق بالتعليم العالي ما بعد الثانوي.

وفي هذا الصدد تحدثت ميساء جلبوط، الرئيس التنفيذي لمؤسسة عبد الله الغرير للتعليم، قائلة: “إن سبل مساعدة الشباب اللاجئين فقيرة للغاية في هذا المجال”، وواصلت قائلة “هذه المشكلة قائمة منذ فترة بعيدة، ولكنها تفاقمت وبرزت بشدة مع أزمة اللاجئين السوريين. فهناك خلل كبير في البيئة التعليمية المتاحة للاجئين بشكل عام”.

يعكس هذا الوضع إلى حد ما طبيعة الأزمات الإنسانية التي قد تستمر لفترات طويلة لا يمكن التنبؤ بها. فحاليًا الصراع في سوريا قد دخل عامه السادس، وأصبح هو السبب الرئيسي وراء زيادة اللاجئين في العالم. وفي هذا السياق تعمل وكالات الإغاثة حول العالم تحت وطأة الضغوط الشديدة وعدم كفاية التمويل، لذا فإن قيمة الإنفاق على احتياجات التعليم لا تتعدى نسبة الواحد بالمئة. وهنا يعلق دانييل أوبست، نائب رئيس شؤون الشراكات الدولية في معهد التعليم الدولي (IIE) في نيويورك، قائلا: “جراء الحروب، يصبح التعليم كالطفل اليتيم. إذ دائما ما يأتي التعليم في ذيل قائمة اهتمامات المنظمات الإنسانية”.

عمل معهد التعليم الدولي منذ عام 2012 على ربط نحو 350 طالب سوري بمصادر تمويل من خلال “الائتلاف السوري للتعليم العالي في الأزمات” التابع للمعهد. ويعقد الائتلاف شراكات مع أكثر من 50 جامعة ومؤسسة أكاديمية حول العالم للإبقاء على فرص التعليم الجامعي متاحة لهؤلاء الذين في أمس الحاجة إلى تلك الفرص التعليمية ويسعون للحصول عليها.

الطريق نحو الالتحاق بالجامعة مليء بالعديد من المصاعب بالنسبة للشباب العرب النازحين أو اللاجئين. فأبسط الأمور قد تشكل لهم عقبات كبيرة، ففقدان إحدى الوثائق المطلوبة قد تشكل عائقاً للقبول بالجامعة، هذا عدا الإشكاليات القانونية أو القيود التي قد تواجههم في طلباتهم لتأشيرات السفر. كما أن القليل من الشباب اللاجئين لديهم الإمكانات المادية لدفع رسوم الجامعة ونفقات المعيشة في بلد أجنبي، فضلاً عن أن الطلاب العرب بشكل عام، وخاصة السوريين يفتقدون المهارات اللغوية المطلوبة لمتابعة الدراسة في الجامعات التي تعتمد على استخدام اللغة الإنجليزية. يحذر أوبست من أن الخسارة الناجمة عن تلك الأوضاع هي خسارة مضاعفة، ويوضح قائلاً: “إن هؤلاء الطلاب الحريصين على متابعة تحصيلهم العلمي لن يعملوا فقط على إعادة بناء أوطانهم، بل أيضاً سوف يسعون للمساهمة الجيدة في المجتمعات التي استضافتهم وقت الأزمة”. ويضيف: “نحن فعلاً ننظر لهذه المسألة على أنها حالة طوارئ أكاديمية”.

هناك نقص كبير في مصادر التمويل، ولن يتمكن سوى عدد ضئيل من الشباب اللاجئين من الحصول على المساعدة المادية الكافية للدراسة في الخارج، والطلب على المنح يفوق العرض بأضعاف. فعلى سبيل المثال، تلقى “برنامج المنح الدراسة للطلاب السوريين” العام الماضي 5.000 طلب للحصول على 221 منحة تعليمية؛ وهو برنامج مُقدم من الهيئة الألمانية للتبادل الثقافي يهدف إلى توفير الدعم المالي للاجئين السوريين للالتحاق بالدراسة في الجامعات الألمانية.

وكذلك شهد برنامج “الخدمات الجامعية العالمية الكندية” (WUSC)، ومركزه في العاصمة أوتاوا، قفزة كبيرة في عدد الطلبات المقدمة للحصول على المنح. وقد وفر البرنامج عام 2015 فرصًا دراسية لعدد 84 لاجئًا للالتحاق بالجامعات الكندية، وكان ذلك أكبر عدد من المنح السنوية التي يقدمها البرنامج. أما هذا العام (2016) فمن المتوقع أن يتضاعف عدد المنح التعليمية المُقدمة من البرنامج، إذ تشير الأرقام إلى تفاقم أزمة التعليم الجامعي في المنطقة وذلك بالنظر إلى أن نصف عدد اللاجئين الذين بلغوا 160 لاجئ من حول العالم والذين تقرر أن يحصلوا على الإقامة الدائمة في كندا، وعلى فرصة الدراسة الجامعية عن طريق “برنامج اللاجئين الطلابي” (SRF) التابع للخدمات الجامعية العالمية الكندية كانوا من لاجئين من منطقة الشرق الأوسط.

وتقول ميشيل مانكس، مدير “برنامج اللاجئين الطلابي”: “إن إتاحة الفرصة لهؤلاء الطلاب كي يتابعوا دراساتهم الجامعية هي مسألة بالغة الأهمية في عملية إعادة بناء أوطانهم التي شُرّدوا منها. وإن لم يتمكنوا من الحصول على تلك الفرص التعليمية فستكون خسارة كبيرة في الطاقات والإمكانات”.

أما بالنسبة لعشرات الآلاف من الطلاب الذين لن يتمكنوا من الحصول على تلك الفرص التعليمية فالدراسة عن بعد يُمكن أن تكون هي الطريق الأمثل إلى التعليم والتدريب على نطاق واسع. وفي هذا السياق تعهدت جامعة كيرون التي افتتحت مؤخرًا في ألمانيا بتوفير فرص الدراسة والحصول على الشهادات الجامعية مجانًا ودون الحاجة لتقديم الوثائق المعتادة. وتقدم جامعة كيرون عبر الإنترنت برامج تعليمية معتمدة عالميًا ومطورة من قبل مؤسسات أكاديمية راقية مثل جامعة هارفرد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، كما أنها تعمل مع المنظمات غير الحكومية لإنشاء مراكز تعليمية في مخيمات اللاجئين مجهزة بحواسيب قام بمنحها متبرعين ومتصلة بالإنترنت. وقد تمكنت المنظمات غير الهادفة إلى الربح من جمع تبرعات بقيمة 3.3 مليون دولار من خلال حملات التمويل الجماعي وهو ما أتاح لها قبول أكثر من 1000 طالب.

وتقول ميساء جلبوط: “هناك عوائق أمام التعلم عبر الإنترنت. فاللاجئين يحتاجون أولاً لجهاز كمبيوتر وأن يكون متصل بالإنترنت، فضلاً عن الافتقار إلى وجود محتوي رقمي جيد باللغة العربية. لكن هذه التحديات تبدو صغيرة مقارنة بالإمكانات الكبيرة التي يمكن تنميتها والانجازات الناتجة عنها”. وتضيف قائلة بأنه “من خلال الاستثمار يمكننا توسيع نطاق التجربة وتعميم الفائدة”.

وفي هذا السياق تتعاون بعض الشركات مع المنظمات غير الهادفة للربح للمساعدة بطرق أخرى. فمثلاً عملت شركة كابلان الدولية للتعليم على توفير دورات تأهيلية مجانية للطلاب السوريين لإعدادهم لامتحانات القبول بالجامعات وذلك بالتعاون مع معهد التعليم الدولي. كما طورت المؤسسة الكندية غير الربحية “خدمات التعليم العالمية” طريقة تساعد الطلاب اللاجئين الذين ليس لديهم وثائق رسمية على تكوين ملف شخصي لهم من خلال مقابلات مع الاساتذة، وإجراء امتحانات، ووسائل أخرى في محاولة للتثبت من صحة مؤهلاتهم ومعلوماتهم الشخصية. ومن جهته انضم المجلس الثقافي البريطاني إلى عدد من الوكالات الأخرى بتقديمه دورات مجانية في تعليم اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية للاجئين لمساعدتهم في اكتساب المهارات اللغوية الكافية لمتابعة الدراسة في الجامعات الأوروبية.

لكن المسألة الحرجة والحاسمة في احراز تقدم حقيقي في مواجهة القصور في مجال الفرص التعليمية، حسب ما تحذر منه ميشيل مانكس-برنامج WUSC- هو اقناع عدد أكبر من شركات القطاع الخاص، خاصةً الشركات العاملة في قطاع التكنولوجيا، بالمساهمة الفعالة في هذا الجانب وطرح حلول مبتكرة ومنخفضة التكلفة. هناك بعض الشركات التي تنظر في مسألة استخدام الهواتف الذكية والتطبيقات كوسيلة تعلم في حالات الطوارئ أو لإنشاء محتوى تعليمي يمكن استخدامه بمعزل عن الإنترنت في المناطق النائية ـ لكن هذه الأفكار لم تثمر بعد. وفي مقاربة تقليدية أو عملية أكثر، هناك طرح بأن يتم الاستفادة من الاساتذة المُبعدين لتعليم الطلاب اللاجئين. وتؤكد مانكس أنه “يمكن تحقيق المزيد من النتائج الإيجابية في مجال التعاون بين شركات التكنولوجيا الكبرى والمنظمات غير الحكومية. ولا يبقى سوى أن تستجيب هذه الشركات للنداء”.

لكن التحديات لا تقف عند هذا الحد، فالتعليم العالي لا يقف بمعزل عن البيئة التعليمية المتضررة بوجه عام، فإذا لم يتم بذل المزيد من الجهد لضمان التحاق الأطفال والشباب الصغار بالتعليم الابتدائي والثانوي الجيد، فسوف أعداد المرشحين لمتابعة الدراسة الجامعية في المستقبل تنحسر بشكل كبير. واليوم هناك نحو مليون طفل سوري خارج مقاعد الدراسة في لبنان وتركيا والأردن ـ وهم عرضة للفقر المدقع ولعمالة الأطفال.

تُحذر ملك النمر من مغبة هذا الوضع، وهي مُؤسِسة جمعية وحدة الشباب البناني (ULYP) غير الهادفة للربح التي تعمل على مساعدة الشباب اللاجئين العرب في الحصول على مقاعد في الجامعات والتمويل اللازم. فهي تلفت النظر إلى أن محنة اللاجئين الفلسطينيين ـ الذين يضمّون اليوم الجيل الثالث لهم في المنفى ـ يجب أن تكون عبرة للجميع حول أهمية إيجاد حل متكامل لمعضلة التعليم. وتقول: “يعيش معظم اللاجئون الفلسطينيون في لبنان على هامش المجتمع. أكثر من نصفهم عاطلون عن العمل، فضلاً عن أن 60 بالمئة منهم في حالة عوز لا تمكنهم من تلبية احتياجاتهم الأساسية. ولا تبلغ نسبة الشباب المتأهلين على مستوى جامعي أكثر من الأربعة بالمئة.

ساعدت جمعية وحدة الشباب اللبناني ما يبلغ مجموعه 630 شاب فلسطيني في متابعة دراساتهم العليا في جامعات في الشرق الأوسط شاملة تركيا. وتفيد النمر بأن جميع خريجي الدفعة الأولى من طلاب الجمعية إما قد حصلوا على وظائف أو اختاروا متابعة دراسات أعلى. وتقول: “التحصيل العلمي هو السبيل الوحيد لخروج اللاجئين من دائرة الفقر ـ هذه حقيقة بسيطة وواضحة”. وتضيف قائلة: “الخريجون لا يعودون إلى مخيمات اللاجئين، وبنهاية الأمر ينتشلون أسرهم من العيش في المخيمات. فالتحصيل العلمي يمنح اللاجئين الأمل حيثما كان الأمل مفقوداً”.

لكن النقص في التمويل قد أبطأ من جهود الجمعية في توسيع برامجها. وتوضح النمر بأن بعض المانحين يفتقدون إلى الإحاطة بشكل جيد بالنفقات المرتبطة بتمويل التعليم الجامعي الجيد.

وتقول: “يركز البعض على أعداد الملتحقين بالجامعات عوضًا عن جودة التعليم، وهذا موقف خاطئ. فلن يكون بإمكان الخريجين إيجاد فرص عمل إن كانوا يحملون شهادات من جامعات مصنفة في المستوى الثالث أو الرابع. ورغم أن كلفة تمويل الطالب الواحد قد تنخفض إلا أن هذا النوع من التقدير هو تقدير خاطئ اقتصاديًا”.

ويعلق بعض المحللين أهمية كبيرة على التنسيق والتعاون الوثيق بين جميع الأطراف على أنه الوسيلة الأمثل لإلحاق أعداد أكبر من الطلاب اللاجئين بالجامعات. وهم يرون بأنه عندما يتم جمع الموارد والخبرات ضمن مخطط واحد، يمكن عندها تجنب الازدواجية في العمل والجهود التي تقوم بها كلّ من المنظمات غير الربحية ووكالات المساعدات وأصحاب الأعمال الخيرية، كما سيكونون في موقع أفضل لتقييم طرق المساعدة وتحديد الأفضل بينها. ويؤكد أوبست قائلاً: “التحدي الأكبر هو خلق التنسيق الفعال بين كل الفاعلين في هذا المجال”. ويضيف: “كل طرف له أولوياته. لكننا إن تمكنا من أن نجمع بين كل الأطراف يمكننا عندها أن نحدد أفضل الممارسات ثم توسيع نطاق الأعمال على هذا الأساس”.

ترى ميشيل مانكس أن الشراكات بين الجامعات في الدول الغربية ودول الشرق الأوسط يمكنها أن تزيد الطاقة الاستيعابية في المنطقة ـ ومن شأن هذه الشراكات أيضاً أن تزيد عدد الشهادات المتاحة باللغة العربية للاجئين. وتقول: “أعتقد أنه يمكن للفئة التي تخطت المرحلة الثانوية في منطقة الشرق الأوسط الاضطلاع بدور أكبر. والتحدي يكمن في حث هذه الفئة وتعبئتها”.

وفي الوقت الذي تتعاظم فيه أزمة اللاجئين في العالم العربي، تصبح الحاجة للعمل الموحد أكثر إلحاحاً. ويأمل الكثيرون بأن تبرز مؤسسة عبد الله الغرير للتعليم كمنصة محورية يلتف حولها الأطراف الفاعلة للنقاش في مسألة التعليم الجامعي، وباعتبارها عاملا محفزًا لاختبار أساليب جديدة وتوسيع نطاق تطبيقها.

تقول ميساء جلبوط: “قد تكون هذه المؤسسة حديثة العهد، لكن مشكلة التعليم هي مشكلة بعيدة الأمد، ونحن لن نعمل على حلها بمفردنا”. وتضيف قائلة: “نحن ملتزمون بالكامل بأن نجمع كل الفاعلين على مائدة حوار واحدة، وأن نجد طرقاً جديدة ونضعها قيد الاختبار. فأمامنا فرصة هائلة لا نريد تفويتها، ونحن نرحب بأي دعم في عملنا هذا”.

لا شك أن الفشل في سد الفجوة الكبيرة في توافر فرص التعليم سيكون ثمنه باهضًا، ليس على مستوى اللاجئين فقط بل على منطقة الشرق الأوسط ككل. وتختتم جلبوط بقولها: “عندما أنظر إلى وجوه هؤلاء اللاجئين الشباب وأفكر بأنه قد لا تسنح لهم الفرصة أبداً بأن ينالوا من هذه الحياة ما يستحقونه أو أن يساهموا في مستقبل منطقتنا، يتملكني شعور كبير بالخسارة ـ خسارة ليس لنا فقط، بل للعالم أجمع”